لقد حظيت الدراسات الصوتية بأهمية كبيرة قديما وحديثا في مجال الدراسات اللغوية ؛ حيث تكشف من خلال مستوياتها التحليلية عن كثير من القوانين التي تحكم الظواهر الصوتية المميزة للغة عن أخرى.
و قديما عني علماء اللغة بدراسة القراءات القرآنية و أصوات اللغة العربية ، ومن ثم ظهر علم التجويد تطبيقا للنظرية الصوتية عند العرب ، ثم ظهرت الدراسات الصوتية الحديثة التي درست اللهجات العربية و القراءات القرآنية دراسة علمية معملية ، بعضها درست قراءة بعينها ، وبعضها درست القراءات القرآنية و ظواهرها اللغوية بشكل عام .
وفي هذا البحث البسيط سألقي الضوء على المماثلة الصوتية ممثلة في بعض القراءات القرآنية ؛ فسأعرض في البداية مفهوم المماثلة الصوتية حديثا و ربط هذا المفهوم بما ذكرته كتب اللغة قديما من مصطلحات مثل ( الإدغام، والمناسبة ، و المضارعة ، و غيرها ).
ثم قسمت المماثلة الصوتية إلى قسمين رئيسين هما : المماثلة بين الصوامت ، و المماثلة بين الصوائت .
أما المماثلة بين الصوامت فتنقسم إلى قسمين :
• مماثلة كلية ، كما هو في الإدغام .
• مماثلة جزئية ، كما هو الحال في انتقال مخرج الصوت .
أما المماثلة بين الصوائت ، فتنقسم أيضا إلى قسمين:
• مماثلة الحركات للحركات .
• مماثلة الحركات لأشباه الحركات .
و نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا وأن يوفقنا لما فيه خير الدنيا والآخرة .
1- مفهوم المماثلة الصوتية:
عندما يتحدث الإنسان تتأثر الأصوات اللغوية بعضها ببعض أثناء الكلام ، وقد يكون هذا التأثر على مستوى أصوات الكلمة الواحدة أو على مستوى أصوات الكلمات المتجاورة ، فطبيعة الإنسان تجنح إلى السهولة والسلاسة أثناء الحديث أو الكلام الأمر الذي يؤدي إلى تغير بعض الأصوات في مخرجها أو صفاتها بسبب مجاورتها لأصوات أخرى تقليلا للجهد العضلي في النطق بتلك الأصوات أو مراعاة للانسجام الصوتي بين الأصوات المتجاورة ، وهذا الانسجام أو التأثر تتفـاوت درجاته من صوت لآخر فمنها ما يتأثر كليا فيفنى في الصوت المجاور له ، ومنها ما يكون تأثره أقل من ذلك ، وكل ذلك يهدف إلى نوع من التشابه أو التماثل بين أصوات اللغة ، يتيح للإنسان سهولة التحدث بطلاقة دون التكلف في نطق الأصوات .
وهذا التأثر والانسجام الصوتي يعد من الظواهر اللغوية التي نالت اهتماما كبيرا من علماء اللغة لما لهذه الظاهرة من أثر كبير في نطق الأصوات في جميع اللغات ، وقد أطلق عليها علماء اللغة المحدثون مصطلح (المماثلة) ، وهم يعرفونها عدة تعريفات مختلفة ، من ذلك أنها "كلما اقترب صوت من صوت آخر ، اقتراب كيفية أو مخرج ، حدثت مماثلة ، سواء ماثل أحدهما الآخر أو لم يماثله " (برتيل مالبرج ، علم الأصوات ، تعريب : عبد الصبور شاهين ، ص141) فهو يعلل المماثلة باقتراب صوت من صوت آخر سواء كان هذا الاقتراب كليا أي مماثلة كلية كالإدغام مثلا ، أو اقترابا جزئيا أي مماثلة جزئية . وهذا هو المقصود من قوله ماثل أحدهما الآخر أم لم يماثله . كما يعرفها Brosnahan "بأنها التعديلات التكيفية للصوت حين مجاورته للأصوات الأخرى"( عبد القادر عبد الجليل ، الأصوات اللغوية ، ص283) فهو هنا جعل من المجاورة علة لتكيف صوت مع صوت أخر .
والمماثلة أيضا " تأثر الأصوات اللغوية بعضها ببعض تأثرا يهدف إلى نوع من المماثلة أو المشابهة بينها ليزداد مع مجاورتها قربها في الصفات أو المخارج . وقد يتأثر الحرف المتجاور الأول بالثاني أو العكس … وهذه ظاهرة من مظاهر تطور اللغة من الناحية الصوتية "( علية عياد ، معجم المصطلحات اللغوية والأدبية ، ص21).
كما أنها " تأثر صوت بصوت آخر تأثرا يفضي إلى تماثلهما جزئيا أو كليا . وتقسم المماثلة -علاوة على قسمتها إلى مماثلة جزئية ومماثلة كلية- باعتبار العلاقة المكانية بين الصوتين إلى مماثلة متجاورة ومماثلة متباعدة ، وباعتبار موقع الصوت المتأثر إلى مماثلة رجعية ، ومماثلة تقدمية ومماثلة تبادلية " (رمزي بعلبكي ، معجم المصطلحات اللغوية ، ص59) وفي هذين التعريفين نجد أن المماثلة هي نوع من التأثر بين الأصوات ، إلا أن هذا التأثر تختلف مستوياته حسب قرب الصوتين في الصفات أو المخارج .
فمن التعريفات السابقة للماثلة عند المحدثين نجد أن علة حدوث المماثلة هو تجاور الأصوات اللغوية ، حيث يتأثر أحد الصوتين المتجاورين بالآخر ، وهذا التأثر والتجاور جعل المماثلة أنواعا :-
أ- باعتبار اتجاه التأثير : تقسم المماثلة على هذا الأساس إلى نوعين :
المماثلة الرجعية : وهي التي يؤثر فيها الصوت اللاحق في الصوت السابق ، فيكون الصوت السابق (متأثرا) والصوت اللاحق (مؤثرا) ، مثال ذلك في العربية الفعل (اضطرب) كما في النموذج التالي :
اضترب اضطرب اطْطَرب اطَّرب
نلاحظ أن الصوت اللاحق (التاء) تأثر بالصوت السابق له وهو (الضاد) ثم تأثر صوت (الضاد) بصوت (الطاء) التالي له حيث تحولت الضاد إلى طاء وأدغمت فيها ، وهذا التحول سببه أن الصوتين (الضاد والطاء) صوتان مطبقان فيؤدي النطق بهما متجاورين إلى ثقل في اللسان وتكلف في الجهد العضلي ، فتحولت الضاد إلى طاء لتدغما ويرتفع بهما اللسان ارتفاعة واحدة وبذلك يقل الجهد العضلي المبذول في نطق الصوت ، فتكون المماثلة هنا رجعية لأن صوت الطاء (اللاحق) أثر في صوت الضاد (السابق) .
المماثلة التقدمية : وهي التي يؤثر فيها الصوت السابق في الصوت اللاحق فيكون الصوت السابق (مؤثرا) ، والصوت اللاحق (متأثرا) مثال ذلك في العربية الفعل (ذكر) تأتي صيغة الافتعال منها (اذتكر) فيتحول كالتالي:
اذتكر اذدكر
حيث يؤثر صوت الذال المجهور على صوت التاء المهموس ، فيحولها إلى دال مجهورة، وبذلك يؤثر الصوت السابق (الذال المجهورة) في الصوت اللاحق (التاء المهموسة) لتتحول إلى (دال مجهورة) . وبذلك تكون المماثلة تقدمية . إلا أن صوت الدال الشديدة يؤثر في صوت الذال الرخوة فتتحول كالتالي :
اذدكر ادْدكر ادَّكر
وبذلك تتحول الذال إلى دال وتدغم في الدال الثانية وبذلك تكون المماثلة رجعية في هذه الخطوة .
ب- باعتبار العلاقة المكانية بين الصوتين : يعتمد تأثر أحد الصوتين المتجاورين بالآخر على العلاقة المكانية بينهما وتنقسم إلى قسمين :
مماثلة مباشرة إذا كان الصوتان متجاورين تماما دون فاصل بينهما سميت المماثلة مباشرة أو تجاورية (انظر: عبد القادر عبد الجليل ، الأصوات اللغوية ، ص289)، أو متصلة (انظر: برتيل مالبرج ، علم الأصوات ، ص142)، ومثال ذلك قوله تعالى :" من بعد وصية" {النساء 12} حيث تأثر صوت النون في (من) بصوت الباء في (بعد) فتحول صوت النون إلى صوت الميم ، والملاحظ هنا أن التأثير بين صوتي النون والباء تأثير مباشر ، فلا فاصل بينهما .
مماثلة غير مباشرة إذا كان هناك فاصل بين الصوتين فإن المماثلة تسمى غير مـــباشـــرة أو تباعدية (انظر: عبد القادر عبد الجليل ، الأصوات اللغوية ، ص289)، أو مماثلة عن بعد أو متراخية (انظر: برتيل مالبرج ، علم الأصوات ، ص142) مثال ذلك قوله تعالى: " قُلوبـِـهـِمِ العِجْل" {البقرة 93} حيث كسرت الهاء والميم إتباعا لكسرة الباء فتحولت الضمتان اللتان بعد الهاء وبعد الميم إلى كسرتين، فالمماثلة هنا غير مباشرة لأن الصامت فصل بين الحركتين.
وبعد أن تعرفنا على المماثلة عند المحدثين نجد أنه كان لعلمائنا القدامى السبق في اكتشاف المماثلة بين الأصوات، إلا أنهم لم يطلقوا عليها مصطلح المماثلة، وإنما أطلقوا عليها مصطلحات أخرى مختلفة، من ذلك ما ذكره سيبويه في كتابه، قوله:" فأما الذي يضارع به الحرف الذي من مخرجه فالصاد الساكنة إذا كانت بعدها الدال. وذلك نحو: مصد، وأصدر، والتصدير؛ لأنهما قد صارتا في كلمة واحدة، كما صارت مع التاء في كلمة واحدة في افتعل فلم تدغم الصاد في التاء لحالها التي ذكرت لك. ولم تدغم الدال فيها ولم تبدل لأنها ليست بمنزلة اصطبر وهي من نفس الحرف. فلما كانتا من نفس الحرف أجريتا مجرى المضاعف الذي هو من نفس الحرف من باب مددت، فجعلوا الأول تابعا للآخر، فضارعوا به أشبه الحروف بالدال من موضعه، وهي الزاي، لأنها مجهورة غير مطبقة. ولم يبدلوها زايا خالصة كراهية الإجحاف بها للإطباق، كما كرهوا ذلك فيما ذكرت لك قبل هذا. وسمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايا خالصة كما جعلوا الإطباق ذاهبا في الإدغام. وذلك قولك في التصدير: التزدير، وفي الفصد: الفزد، وفي أصدرت: أزدرت. وإنما دعاهم إلى أن يقربوها ويبدلوهاأن يكون عملهم من وجه واحد وليستعملوا ألسنتهم في ضرب واحد، إذ لم يصلوا إلى الإدغام ولم يجسروا على إبدال الدال صادا، لأنها ليست بزيادة كالتاء في افتعل. والبيان عربي"( سيبويه ، الكتاب ، ج4 ، تحقيق : عبد السلام هارون ، ط2 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1982 ، ص477-478 ).
فمن كلام سيبويه نجده يعرف المماثلة بالمضارعة، وهي عنده كما نلاحظ تقريب صوت من صوت (فضارعوا به أشبه الحروف بالدال من موضعه، وهي الزاي … ولم يبدلوها زايا خالصة) أي أنه تم تقريب صوت الصاد من صوت الزاي دون قلب الصاد زايا خالصة وهو كما يعرف عند القراء بإشمام الصاد صوت الزاي. فسيبويه هنا يفرق بين التقريب (المضارعة) والإبدال والإدغام، أما المحدثون فيرون أن الإبدال والإدغام لون من ألوان المماثلة.
أما ابن جني فيقول :" قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت. وهو في الكلام على ضربين: أحدهما أن يلتقي المثلان على الأحكام التي يكون عنها الإدغام، فيدغم الأول في الآخر. والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك؛ فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطّع، وكاف سكّر الأوليين؛ والمتحرك نحو دال شدّ، ولام معتل. والآخر أن يلتقي المتقاربان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام، فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه … فإن كان الأول من المثلين متحركا ثم أسكنته وأدغمته في الثاني فهو أظهر أمرا … وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت وأدغمت، فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه؛ لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير. فهذا حديث الإدغام الأكبر، وإما الإدغام الأصغر، فهو تقريب الحرف من الحرف وإدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك. وهو ضروب، فمن ذلك الإمالة، وإنما وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك نحو عالم، وكاتب، وسعى، وقضى، واستقضى، ألا تراك قربت فتحة العين من عالم إلى كسرة اللام منه، بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة، فأملت الألف نحو الياء. وكذلك سعى وقضى: نحوت بالألف نحو الياء التي انقلبت عنها. وعليه بقية الباب. ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صادا أو ضادا، أو طاء، أو ظاء، فتقلب لها تاؤه طاء. وذلك نحو اصطبر … فهذا تقريب من غير إدغام " (ابن جني ، الخصائص ، ج2 ، تحقيق : محمد علي النجار ، دار الهدى ، بيروت ، ص139-141).
فيتضح من هذا القول أن ابن جني يسمي المماثلة تقريبا (تقريب صوت من صوت) ويقسمها إلى قسمين باعتبار درجة التأثر.
القسم الأول: الإدغام الأكبر، وهو إدغام المثلين والمتجانسين والمتقاربين إدغاما كاملا، أي فناء صوت في صوت آخر، والنطق بهما صوتا واحدا مشددا مثل (تثاقل) أصبحت (اثاقل) حيث قلبت التاء ثاء وأدغمت في الثاء الأصلية ونطق بهما ثاء واحدة مشددة.
القسم الثاني: الإدغام الأصغر، وهو تقريب صوت من صوت آخر دون إدغامهما أو فناء أحدهما في الآخر، وإنما هو تقريب سواء في المخرج أو الصفة حتى يقلل من الجهد العضلي المبذول في النطق بهما متجاورين، مثل (اصْــتَبَر) صيغة الافتعال من (صَــبَر) أصبحت (اصْــطَـبَر) حيث قلبت تاء الافتعال طاء، لأن الصاد مطبقة بينما التاء منفتحة ، فقلبت التاء طاء مطبقة لتناسب الصاد في صفة الإطباق، وذلك يقلل من الجهد العضلي عند النطق بهما متجاورين.
بينما يعرف الاستربادي النحوي المماثلة بالمناسبة كما هو فــــي قــــــــــوله: " الإمالة: أن ينحى بالفتحة نحو الكسرة، وسببها قصد المناسبة لكسرة أو يـــاء، أو لكون الألف منقلبة عن مكسور أو ياء، أو صائرة ياء مفتوحة… وسبب الإمالة إما قصد مناسبة صوت نطقك بالكسرة التي قبلها كعماد ، أو بعدها كعالم… أو قصد مناسبة فاصلة لفاصلة ممالة، أو قصد مناسبة إمالة لإمالة قبل الفتحة، أو قصد مناسبة صوت نطقك بالألف بصوت نطقك بأصل تلك الألف(محمد الاستربادي ، شرح شافية ابن الحاجب ، ج3 ، تحقيق : محمد نور الحسن وآخــــرون ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ص4-5(
فكما رأينا أن علماءنا القدامى قد عرفوا المماثلة ولكنهم عالجوها تحت أبواب مختلفة وأطلـــقوا عليها مصطلحات متعددة ، فهي عند سيبويه (المضارعة) ، وعند ابن جني (تقريب صوت من صوت)، بينما عند الاستربادي (المناسبة).
ورغم هذا الاختلاف في تحديد مصطلح المماثلة إلا أن كل المصطلحات التي ذكرها علماؤنا القدامى تصب في قالب واحد وهو المماثلة كما هو واضح من تعريفاتهم لها، والاختلاف بينها لفظي.
2- أقسام المماثلة :
لما كانت الأصوات اللغوية تنقسم إلى صامتة وصائتة، رأينا أن نقسم المماثلة إلى قسمين: المماثلة بين الصوامت، والمماثلة بين الصوائت (الحركات).
2-1- المماثلة بين الصوامت:
تندرج ألوان التأثر في المماثلة بين الصوامت تحت قسمين هما:
- المماثلة الكلية: وتتمثل في الإدغام .
- المماثلة الجزئية: وتتمثل في انتقال مخرج الصوت.
2-1-1- المماثلة الكلية ( الإدغام ):
كان للإدغام حظ كبير من الاهتمام والدراسة عند علماء القراءات وعلماء اللغة القدامى، ويكاد تعريفهم للإدغام يتفق مع وجود بعض الاختلافات البسيطة.
فيعرف ابن منظور الإدغام في اللغة بأنـــــه "إدخــــال حرف في حرف. يقال: أَدْغَمْت الحرف وادّغَمْته، على افْتَعَلْتُه، والإدغام: إدخال اللجــــــام في أفواه الدواب". (ابن منظور ، لسان العرب ، مادة (دغم) ، تحقيق : مكتب تحقيق التراث ، ط2 ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1993)
أما عند النحاة فنجد سيبويه يقول في كتابه " هذا باب الإدغام في الحرفين اللذين تضع لسانك لهما موضعا واحدا لا يزول عنه " (سيبويه ، الكتاب ، ج2 ، ط1 ، المطبعة الأميرية ببولاق ، مصر ، 1898م ، ص407) وهنا يشير سيبويه إلى إدغام الحرفين المتامثلين بحيث يكون موضع اللسان عند النطق بهما موضعا واحدا. ويتفق ابن عصفور الإشبيلي مع سيبويه في تعريفه للإدغام (انظر : ابن عصفور الإشبيلي ، الممتع في التصريف ، ج2 ، ص631).
بينما يعرفه مكي بن أبي طالب قائلا:"الإدغام معناه: إدخال شيء في شيء، فمعنــى: أدغـمت الحـرف فـي الحـرف، أدخلته فيه، فجعلت لفظه كلفظة الثاني فصارا مثلين"( مكي بن أبي طالب ، الكــــشف عـن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها ، تحقيق : محي الدين رمضان، ج2 ، مجمع اللغة العربية بدمشق ، 1974م ، ص143). وهنا يشير مكي إلى قلب الحرف الأول حرفا آخر من جنس الحرف الثاني، فيكونا مثلين حتى ينطق بهما بلفظة واحدة.
ويعرفه ابن يعيش بقوله:"اعلم أن معنى الإدغام إدخال شيء في شيء ، يقال أدغمت اللجام في فم الدابة أي أدخلته في فيها …… والإدغام بالتشديد من ألفاظ البصريين، والإدغام بالتخفيف من ألفاظ الكوفيين، ومعناه في الكلام أن تصل حرفا ساكنا بحرف مثله متحرك من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقف فيصيران لشدة اتصالهما كحرف واحد ترتفع اللسان عنهما رفعة واحدة شديدة، فيصير الحرف الأول كالمستهلك لا على حقيقة التداخل والإدغام وذلك نحو شد ومد ونحوهما ..."( ابن يعيش ، شرح المفصل ، ج10 ، مكتبةالمتنبي ، القاهرة ، ص121) وهنا يشترط ابن يعيش أن يكون الحرف الأول ساكنا والثاني متحركا دون أن تفصل بينهما حركة أو وقف مما يعزز قوة اتصالهما، وبالتالي ينطق بهما كحرف واحد يرتفع بهما اللسان رفعة واحدة شديدة بحيث يفنــــى الحرف الأول في الحرف الثاني، وهذا نفهمه من قوله:"فيصير الحرف الأول كالمستهلك لا على حقيقة التداخل والإدغام"وهذا التعريف لابن يعيش يتفق مع تعريف ابن القاصح للإدغام.( انظر : ابن القاصح ، سراج القارئ المبتدئ ، ص33)
أما ابــن الجـــزري فــيـــرى أن "الإدغــام هــــــو اللفظ بحرفين حرفا كالثاني مشددا" (ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر ، ج1 ، ص274) ويتضح من هـــذا التعريف أن الحرف الأول يتغير ليماثل الحرف الثاني ، وبالتالي النطق بهما معا حرفا واحدا مشددا . ويقسم القراء الإدغام وفقا لحركة المدغم والمدغم فيه إلى قسمين :
الإدغام الكبير: وهو الذي يكون الحرف الأول فيه متحركا ، وسمي كبيرا لكثرة وروده ، وقيل لصعوبته؛ إذ لا بد من تسكين الحرف الأول ثم إدغامه.
الإدغام الصغير: وهو الذي يكون الحرف الأول فيه ساكنا .
ويقسم الإدغام وفقا لدرجة التشابه الصوتي بين الحرف المدغم والحرف المدغم فيه إلى ثلاثة أقسام:
أ- إدغام المثلين: وهو إدغام يحدث بين حرفين متحدين مخرجا وصفة، كالباء في الباء،والكاف في الكاف (أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ، ج1 ، ص112 ، بتصرف) ويقول سيبويه في هذا الإدغام:" فإن كان قبل الحرف المتحرك الذي وقع بعده حرف مثله حرف متحرك ليس إلا، وكـان بعد الذي هو مثله حرف ساكن حسن الإدغام"( سيبويه ، الكتاب ، ج4 ، ص437) وبذلك يكون إدغام المثلين جائزا،ومنه إدغام الباء من قـوله تعالى: " لَذَهَبْ بِّسَمْعِهِم" {البقرة 20}، وإدغام اللام في قوله:" آلْ لُّوط " { الحجر 59}، وبما أن اللام في (ءال) متحركة وجب إسكانها ثم إدغامها في لام (لوط) فتصيران لاما واحدة مشددة.
ب- إدغام المتجانسين : وهو إدغام حرفين اتحدا مخرجا، واختلفا صفة، كالدال في التاء، والتاء في الطاء، والثاء في الذال.( أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ، ج1 ، ص112 ، بتصرف)
مثال ذلك إدغام الباء في الميم من قوله تعالى : "اركَبْ مَّعَنا"{هود 42}، وهذا الإدغام جائز عند القـراء، يقول أحمـد البنـا:" فالباء تدغم في الميم في قوله تعـالـى:( ويُعَذِّبْ مَّنْ يَّشَاء) فقط، وهو في خمسة مواضع، لاتحاد مخرجهما، وتجانسهما في الانفتاح، والاستفال، والجهر، وليس منه موضع آخر بالبقرة، لسكون الباء"( أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ، ج1 ، ص116).
كما أن هذا الإدغام جائز في اللغة لقول سيبويه:"ومن الحروف حروف لا تدغم في المقاربة وتدغم المقاربة فيها. وتلك الحروف:الميم، والراء، والفاء، والشين. فالميم لا تدغم في الباء "( سيبويه ، الكتاب ، ج4 ، ص447) ويعلل ذلك بأن العرب تقلب النون ميما في كلمة العنبر، فلما وقع مع الباء الحرف الذي يفرون إليه من النون وهو الميم لم يغيروه، وجعلوه بمنزلة النون لأنهما حرفا غنة، بينما يجوز إدغام الـباء في الميم، كقولهم:"اصحب مطرا" " (المرجع نفسه ، ج4 ، ص447 ، بتصرف).
ج- إدغـــام المتقاربـيـن: وهو إدغام حرفين تقاربا مخرجا أو صفة أو مخرجا وصفة (أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ،ج1 ، ص112، بتصرف). فيقول سيبويه:"والباء قد تدغم في الفاء للتقارب، ولأنها قد ضارعت الفاء فقويت على ذلك لكثرة الإدغام في حروف الفم، وذلك قولـك:اذهب في ذلك؛ فقلبت الباء فاء"( سيبويه ، الكتاب ، ج4 ، ص 448). كما يـعلل مكي بن أبي طالب هذا الإدغام فيقول: " وحجة من أدغم أن الفاء حرف فيه تفش وذلك قوة فيه، والباء أقوى منه، لأنها شديدة مجهورة، والفاء مهموسة رخوة، فلما كان في كل واحد منهما قوة واشتركا في المخرج من الشفتين، وفي أن لام المعرفة لا تدغم في واحدة منهما، جاز إدغام الأول في الثاني"( مـكـي بـن أبـي طـالـــب ، الـكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها ، ج1 ، ص155). فنلاحظ من قول مكي أن الباء والفاء تعادلتا في القوة حيث إن الباء قوتها في شدتها وجهرها، بينما الفاء قوتها في تفشيها، وهما مشتركتان في المخرج، لذلك جاز إدغام الباء في الفاء.
2-1-2- المماثلة الجزئية : انتقال مخرج الصوت :
من أنواع التأثر التي تتعرض لها الصوامت أن ينتقل الصوت من مخرجه الأصلي إلى مخرج آخر أقرب إلى مخرج الصوت المجاور له، فيستبدل به أقرب الأصوات إليه في هذا المخرج الجديد (إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية ، ص185 ، بتصرف).
وهذا النوع من التأثر نجده عند القراء في قلب النون الساكنة أو التنوين ميما إذا وليها باء(أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ، ج1 ، ص146)، مثال ذلـــــك قــــوله تعالى :" أَنْبـِئـْهُم " {البقرة33} ، وقوله " سَميعـًـا بَصيرا " {النساء 58}.
2-2- المماثلة بين الصوائت (الحركات ) :
سنتناول في هذا القسم مناقشة أشكال المماثلة بين الصوائت وهي على ضربين :
- مماثلة الحركات للحركات .
- مماثلة الحركات لأشباه الحركات .
وفيما يلي تفصيل ذلك :-
2-2-1- مماثلة الحركات للحركات : قرأ بعض القراء بمماثلة حركة لحركة في بعض المواضع كالتالي :-
- ضــمير الجمع الــــغـــائب ( هـــم ) الـمـــســبــــوق بــكـسرة، كما في قوله تعالى: " قـُـلوبـِـهـِـم ِ العِجْل " {البقرة 93}( أحمد مختار عُمَر وعبد العــــال مكرم ، معجم القراءات القرآنية ، ج1 ، ط3 ، عالم الكتب ، القاهرة ، 1997م ، ص88)، حيث كسرت الهاء إتباعا لكسرة الباء قبلها كما كسرت الميم إتباعا لكسرة الهاء، حيث إن الانتقال من الكسر إلى الضم صعب من حيث حركة اللسان ( ارتفاع في المقدمة وارتفاع في المؤخرة ) بشكل سريع.
- قوله تعالى: " ومِنَ المَعْـزِ اثــْـنـَـيْن " {الأنعام 143} تأثرت حركة العين في (المعز) بحركة الميم قبلها، فــــتحول السكون إلى فتحة، فقرأها أبو عمرو بن العلاء (المَعَـز) (أحمد مختار عُمَر وعبد العــــال مكرم ، معجم القراءات القرآنية ، ج2 ، ص328) بفتح العين.
2-2-2- مماثلة الحركات لأشباه الحركات: قرأ بعض القراء بمماثلة الحركات لأشباه الحركات في ضمير الجمع الغائب المسبوق بياء ، في قوله تعالى :" عَلَـيْـهُمُ القِتـَال " {البقرة 246} ، حيث تتأثر حركة الهاء في (عليهم) بالياء التي تسبقها ، فتتحول إلى كسرة ، ثم تتحول حركة الميم إلى كسرة إتباعا لكسرة الهاء قبلها ، فقرأها أبو عمرو بن العلاء " عليهـِـم ِ"( أحمد مختار عُمَر وعبد العال مكرم ، معجم القراءات القرآنية ، ج1 ، ص191) في القرآن كله.
الخاتمة
الحمد لله رب العالمين أن أنعم علينا بفضله ، و يسر لنا الاستضاءة بنور كتابه الكريم ، و استطعنا أن نقف ولو بشكل مبسط على إحدى الظواهر الصوتية في قراءات القرآن الكريم، لتكون لنا نورا وهداية في طريق الدراسات الصوتية الحديثة .
فقد قدمت في هذا البحث المبسط عرضا لمفهوم المماثلة الصوتية ممثلة في بعض القراءات القرآنية ؛ فعرضت في البداية مفهوم المماثلة الصوتية حديثا و ربط هذا المفهوم بما ذكرته كتب اللغة قديما.
ثم قسمت المماثلة الصوتية إلى قسمين رئيسين هما: المماثلة بين الصوامت، و المماثلة بين الصوائت .
فقسمت المماثلة بين الصوامت إلى قسمين :
• مماثلة كلية.
• مماثلة جزئية.
كما قسمت المماثلة بين الصوائت أيضا إلى قسمين :
• مماثلة الحركات للحركات .
• مماثلة الحركات لأشباه الحركات .
ومن النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث :
- عرف علماء اللغة القدامى ظاهرة المماثلة وأطلقوا عليها مصطلحات مختلفة كالإدغام ، والمضارعة، والمناسبة، والمجانسة، والتقريب .
- كانت المماثلة في القراءات القرآنية شاملة للمماثلة بين الحركات، ومماثلة الحركات لأشباه الحركات.
وأسأل الله تعالى أن نكون قد وفقنا في اختيار مادة هذا البحث آملين أن يكون بداية لخوض دراسة صوتية أوسع ذات نتائج في مجال الدراسات الصوتية الحديثة.
هذا وإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ، وأسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة .
المصادر والمراجع
1. إبراهيم أنيس ، الأصوات اللغوية، ط6 ، القاهرة ، مكتبة الأنجلو المصرية ، 1981 .
2. ابن الأنباري ، الإنصاف في مسائل الخلاف ، ج2 ، تحقيق : محي الدين عبد الحميد ، دار الفكر ، (د.ط)،(د.ت) .
3. ابن الجزري ، النشر في القراءات العشر ،مراجعة: علي محمد الضباع ، ج1 ، بيروت,دار الكتب العلمية .
4. ابن القاصح ، سراج القارئ المبتدئ ، ،مراجعة: علي محمد الضباع ، بيروت، المكتبة الثقافية ، 1980 .
5. ابن جني ، الخصائص ، ج2 ، تحقيق : محمد علي النجار ، دار الهدى ، بيروت.
6. ابن عصفور الإشبيلي ، الممتع في التصريف ، ج2 ، تحقيق:فخر الدين قباوة ،ط4، بيروت، دار الآفاق الجديدة ،1979.
7. ابن منظور ، لسان العرب ، مادة (دغم) ، تحقيق : مكتب تحقيق التراث ، ط2 ، بيروت ، دار إحياء التراث العربي ، 1993 .
8. ابن يعيش ، شرح المفصل ، ج10 ، مكتبةالمتنبي ، القاهرة.
9. أبو علي الفارسي ، الحجة في علل القراءات السبع ، ج1 ، تحقيق : علي النجدي و آخرون ،ط2،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1983 .
10. أحمد البنا ، إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر ، ج1 ، تحقبق :شعبان محمد إسماعيل،ط1،بيروت ، عالم الكتب ،1987.
11. أحمد مختار عُمَر وعبد العــــال مكرم ، معجم القراءات القرآنية ، ج1 ، ط3 ، عالم الكتب ، القاهرة ، 1997م.
12. برتيل مالبرج ، علم الأصوات ، تعريب : عبد الصبور شاهين ، مكتبة الشباب , 1984 .
13. رمزي بعلبكي ، معجم المصطلحات اللغوية ، بيروت ، دار العلم للملايين , (د.ت) .
14. سيبويه ، الكتاب ، ج4 ، تحقيق : عبد السلام هارون ، ط2 ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1982.
15. عبد القادر عبد الجليل ، الأصوات اللغوية ، ط1،عمان ،دار الأردن،دار صفاء للنشر و التوزيع ،1998.
16. علي عبد الواحد وافي ، علم اللغة ،ط9، القاهرة ،دار نهضة مصر للطبع و النشر ،1980.
17. علية عياد ، معجم المصطلحات اللغوية والأدبية ، القاهرة ، المكتبة الأكاديمية ، 1994.
18. محمد الاستربادي ، شرح شافية ابن الحاجب ، ج3 ، تحقيق : محمد نور الحسن وآخــــرون ، دار الكتب العلمية ، بيروت.
19. مكي بن أبي طالب ، الكــــشف عـن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها ، تحقيق : محي الدين رمضان ، ج2 ، مجمع اللغة العربية بدمشق ، 1974م.