لقد أنجبت ولاية كيرالا العديد من العلماء والأدباء والأعلام لتثقيف أهلها وتهذيب أمتهم. كانوا يشحذون عقولهم لإنشاء مشاريع متجددة لبناء جيل جديد مثقف من الأمة الإسلامية خاصة، والبشر عامة. لم يكن لديهم وقت يضيّعونه في اللهو وراء الدنيا وزينتها، بل كانوا ينفقونه في طلب العلم والحضارة. من أهم وأبرز هؤلاء الأعلام الشيخ كي. تي. مانو مسليار.
إذا سُئلنا: ما هو هدفك الحقيقي في هذه الدنيا الفانية؟ وما هي إسهاماتك القيمة للجيل القادم؟ فسيكون جوابنا في الغالب الصمت واليأس. لكن الأعلام مثل الشيخ كي. تي. مانو مسليار ليسوا كذلك. يمكن القول بلا شك أن الشيخ كي. تي. مانو مسليار أهدى حياته لبناء حضارة كاملة في ولاية كيرالا، تعليمياً وتربوياً وثقافياً، وخاصة في منطقة ولايته "كروفاراكوند"، حيث يشكل مركز دار النجاة الإسلامي مثالاً شامخاً لذلك.
كان الشيخ كي. تي. مانو مسليار مفكراً ومجدداً في مجال تثقيف الأمة وبنائها، مليئاً بالتربية الضرورية والتعليم العالي الذي كان من أشد التحديات وأهمها بين المسلمين، خاصةً بعد الكارثة المليبارية والاستعمار البريطاني الذي ترك جراحاً عميقة في المسلمين، لا سيما في بلاد المليبار والمناطق المجاورة، ومنها كروفاراكوند وغيرها. في هذه الحالة الراهنة، نظر الشيخ كي. تي. مانو مسليار إلى رفع شأن المنطقة إلى قمة العلا من خلال تطوير مشاريع مختلفة. كانت هذه الحالة الراكدة تشكل آلامه العظمى، فكانت أفكاره تدور دوماً باحثة عن حلول كافية لهذه المشكلة الكبرى. وقد أثمرت هذه الأفكار والهموم في إنشاء مركز دار النجاة الإسلامي.
وفي الوقت ذاته، كان الشيخ ماهراً في عدة لغات، وكتب العديد من المؤلفات الأدبية، بما في ذلك مؤلفات بالمليابارية والفارسية والعربية والأردية. كان أديباً مشهوراً في عصره بين الأدباء العظام. في هذا العدد، تركز هذه الدراسة على إسهاماته الجلية في الأدب والحضارة.
إسهاماته في الأدب
لقد حاز الشيخ كي. تي. مانو مسليار على شهرة واسعة في الأدب والتأليفات بلباقته المتميزة ومهاراته الفذة في الكتابة. ومن خصائصه الأدبية أنه كان أديباً فطرياً. له مؤلفات عديدة في الشعر العربي، والشعر القصير، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، و"الأناشيد المابلا" المشهورة في ذلك الزمان، بالإضافة إلى الأناشيد المليبارية، وأناشيد السفر والزفاف، والنثر، والمقالات المعاصرة، والخطب، والتوصيات. سيتم عرض إسهاماته الأدبية مع أمثلة من تأليفاته.
الشعر العربي
كان الشيخ كي. تي. مانو مسليار حاذقاً في اللغة العربية، ومن ثمرتها أبدع العديد من الأشعار العربية. من أشهر أشعاره قصيدة يرسم فيها حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وشمائله، تتجزأ إلى أجزاء مختلفة تغطي العصر الجاهلي، ومولد النبي، ونشأته، ووصاياه، واعتكافه في غار حراء، ولقائه مع جبريل، وأذاه في أيام دعوته، والهجرة، وبناء حضارة المدينة، وغزواته، وفتح مكة، وغيرها من الأحداث الكبرى في حياته.
وقد ابتدأ هذه القصيدة بهذه الأبيات التي تصف العصر الجاهلي:
سبحان من أبداك يا الخير الورى
نورًا تلقّف ظلمة البطلان
إذ جنت في هذا الوجود تنكست
أصنام شرك مع مزيد هوان
قد أصبحت نار المجوس مخمدة
بعد الضرام طويلة الأحيان
من خصائص هذه القصيدة أن الشيخ أنشدها كاملةً قرب الروضة من المسجد النبوي.
ومن أشعاره الشهيرة الثانية: رثاء الشيخ موسى، الملقب بناديكا، وهو عالم وفيلسوف وخطيب في جمعية العلماء لعموم كيرالا. صاحب الشيخ كي. تي. مانو مسليار في نشر رسالات الدين السمح في ولاية كيرالا. كانا صديقين في دعوة الإسلام. وعندما رحل الشيخ موسى مسليار إلى رحمة الله، عانق الشيخ كي. تي. مانو مسليار حزناً شديداً، فأنشد هذه الأبيات في رثائه:
وجَلا الدموع عن الفؤاد قد امترلا
حزنًا شديدًا من فراق من اعتلا
أقرانه بالعلم والفهم وبالعقل
فما فيهم له من مثلًا
هو مصقع يلقي الخطابة حسبمت
الحال اقتضت طبع له ذاك انجلا
أخاذ قلب السامع حذابه
تبيينه يبدي يحل المشقلا
ومن أشعاره المشهورة الثالثة: رثاء شمس العلماء إي. كي. أبو بكر مسليار، العالم العبقري والأمين العام لجمعية العلماء لعموم كيرالا. انتشر خبر وفاته بين المسلمين بصدمة، وقال الجميع: "لقد زال عالم العالم بزوال هذا العالم الكبير." وكان الشيخ كي. تي. مانو مسليار الأمين المساعد للجمعية، وبينهما صداقة قوية. في وفاته أنشد:
بكت السما وارتجّت الغبراء
كمد العوام، وأقعد الرؤساء
قلِقَ الصدور وفاضت الأعيان
ذُهِلوا ولاةُ الأمر والعلماء
واكربتاه قد جاء خبر غروب
وقت الطلوع وذاعت الأنباء
في كل ناحية فحار وسار
من سمعها فمليئة انحاء
هذه الأشعار الثلاثة هي من أشهر قصائده الطويلة، وله أشعار قصيرة للأطفال مثل:
أيها الغراب شكرًا
أنت أستاذ البشر
أنت علّمت ابن آدم
وفتّ منت القبر
وكذلك عن العنكبوت، والنمل، وغيرها.
من مؤلفاته المشهورة: "منقول من مدح الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهو مؤلف فذ وجذاب في مدح النبي. اشتمل على كثير من مدائح النبي المشهورة كمدائح الإمام البوصيري وأحمد شوقي وعمر القاضي. اتبع الشيخ في هذه القصيدة المولد المشهور "المولد المسمى المنقوص وشرف الأنام"، ومصدر أبياتها اقتُبس من كتب الحديث المعتمدة "البخاري ومسلم" فقط، ما يجعلها مقبولة للجميع. السبب في تأليفها هو شوق قلبه للنبي أثناء سفره إلى المدينة المنورة. تعد هذه القصيدة من الآثار الخالدة لعشقه للنبي، وبدأ أبياتها:
السلام عليك يا حب السلام
السلام عليك يا حب الأنام
السلام عليك يا طب الفؤاد
السلام عليك يا نور النجاح
تميزت الأبيات بتكرار كلمة واحدة في صدر وعجز كل بيت، ما يسهل على القارئ والمتلقي استشعار حب النبي. كتب السيد محمد علي شهاب بانكاد، سيد الأمة والقائد العظيم، مقدمة لهذه القصيدة الجميلة.
ومن أهم مؤلفاته أيضاً الأناشيد المابليا (Mappila Pattukal)، التي تصور للسامعين وقائع تاريخية في مضامرهم كصور حقيقية. كان الشيخ يجتمع مع أدباء في منطقة كروفاراكوند في بيت الحاج حمزة، وبعد هذه اللقاءات ألّف العديد من الأناشيد المابليا، ومن أشهرها "نشيدة الرسالة" (Kattu Pattu)، والتي تجتمع فيها الدقة والذوق والمهارة الأدبية.
وراء هذا التأليف قصة رائعة: كان الشيخ يعمل في مسجد إرنغاتيري بعد دراسته في كلية الباقيات الصالحات في "ويلور" بولاية تاميل نادو. أثناء تدريسه في المسجد، نشأ في نفسه أمل أداء الحج، فذهب إلى المكتبة وقدم طلباً للحج. تحقق الطلب وأدى الحج. بعد سفره، أرسل إليه صديقه رسالة يسأله عن تجربته وذكرياته، فرد عليه بنشيدة تحكي بداية سفره حتى نهايته، مؤلفاً القصيدة باللغة المليبارية، متحدثاً عن آماله في الحج وتحقيقها، وغيرها من الوقائع. تعد هذه النشيدة فريدة في الأدب المليبارى، وله الكثير من الأناشيد المابليا التي تتناول الوقائع التاريخية ومناسبات الزفاف.
هذه بعض الأمثلة فقط التي توضح مهارات الشيخ الأدبية. لم يكن الشيخ كي. تي. مانو مسليار شخصية عابرة في تاريخ ولاية كيرالا، بل كان منارة مضيئة في سماء الفكر والأدب والتربية. خط بقلمه وفكره سطوراً خالدة في ميادين الأدب العربي والمليبارى، وأسهم في بناء جيل واعٍ ومثقف من خلال مؤلفاته ومبادراته التربوية، وعلى رأسها معهد دار النجاة الإسلامي. جمع بين حلاوة البيان وصدق الرسالة، وبين عمق الفكر وصفاء العقيدة، فكان بحق علماً من أعلام النهضة الإسلامية في كيرالا.
إن استحضار سيرته وعرض إسهاماته ليس مجرد وفاء لعالم، بل هو استلهام لمسيرة وتجديد لعهد مع العلم والعمل، في زمن نحن بأمس الحاجة فيه إلى من يحملون رسالته ويكملون مسيرته.