Tuesday , 08 October 2024 KTM College
Culture

الفلسفة الإسلاميّة: تاريخها وعلماؤها والحركات فيها

30-June-2022
د. محمد أسلم إي كى
الأستاذ االمساعد بكلية كى تي يم للدراسات المتقدمة، كروفاراكوند، كيرالا

 إن النقاش والمباحثة حول الفلسفة الإسلامية يكون محلّ الاهتمام البالغ لدى العلماء والباحثين والمفكّرين من أقدم الزمن وقد بيّض الكتّاب عدّة صفحات بتحليلها وألّفت أشتّات الكتب في توسيعها وأن قائمة الإسهامات فيها تطول والفلسفة الإسلاميّة كما هي لاكت بها الأفواه في الماضي حرّكت عنها الأقلام العديدة في كلّ الأزمنة حتى الزمن الحاضر. وكان العلماء في زمن مشغولين بأوقاتهم وقلوبهم بنقاش عن الفلسفة وبالتعمّق إلى بحرها الواسع. وعلى أي حال أن للتاريخ أخبار عديدة عما جرت بصدد الفلسفة على وجه العموم والفلسفة الإسلامية على وجه الخصوص.
تاريخ الفلسفة
تاريخ الفلسفة هو دراسة عن الأفكار الفلسفيّة من خلال العصور المختلفة والتغيّرات التي شهدت الفلسفة عبر مرورها التاريخي. وكلّ الحضارات والعصور ما قبل التاريخ والقرون الوسطى والحديثة والأديان كلّها قد لعبت بدور فعّال في تطوير إطار الفلسفة، وكل واحد من هذه العصور قد قاموا بإسهامات متميّزة بالغة أحيانا ومتناقضة أحيانا، وهذا التناقض قد قاد إلى نقاشات حارّة وساخنة حيث وسّعت مجالات الفلسفة.
والعلماء يقسّمون تاريخ الفلسفة إلى بعض الأقسام المهمّة ليتسنّى للدارسين النظر إليها وإلى تاريخها بيسر وسهولة.
ومن أهمّها الفلسفة الغربيّة التي تقسّم إلى بعض المراحل بما فيها مرحلة الفلسفة القديمة والفلسفة بالقرون الوسطي والفلسفة في عصر النهضة والفلسفة الحديثة الراهنة. والمرحلة الأولى تبدأ حول 585 ق م (قبل الميلاد المسيحي) في مدائن إغريقيّة بأيادي مثل طاليس ثم يجيء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم في هذه القائمة الطويلة عبر العصور المختلفة حتى تصل قائمة الفلاسفة إلى لودفيغ وتغنشاتاين (Ludwig Wittgenstein) وبيرتراند راسل (Bertrand Russell) وغيرهم في العصر الراهن.
والفلسفة الشرقيّة تحتوي على الفلسفة الهندية التي تبدأ برجفيدا (Regveda) وعلى الفلسفة الفارسية والصينيّة وهي تنحصر في كونفشيوسية (Confucianism).
ثم الفلسفة الإبراهيميّة التي تضمّ الفلسفة اليهوديّة والنصرانيّة والإسلاميّة.
وأخيرا الفلسفة الأفريقيّة من القارّة الأفريقيّة وهذه الفلسفة قدّمت كثيرا في الفلسفة العرقيّة (Ethnophilosophy) ويمكن أن تكون فلسفة أفريقيّة غير قابلة للتطبيق في الأماكن الأخرى ولكن بقدر كبير قد لعبت هذه الفلسفة أيضا بدور مهمّ في التاريخ الفلسفي.
الفلسفة الإسلاميّة
وقبل الإجابة على سؤال، ما هو الفلسفة الإسلاميّة؟ يجدر بالتوضيح والتدقيق عن طبيعة الفلسفة الإسلاميّة وأن الفلاسفة الإسلاميين دائما قاموا بتبرير الدوافع والأسباب التي قادتهم إلى الخوض في هذا المجال الفلسفي وأطالوا في المشاكل المفاهيميّة التي احتوت في أعمالهم وأفكارهم الفلسفيّة. وعند التفكير عن هذه النقطة تتّضح لنا أن بعض العناصر الدينيّة بدا لهم كما يمنعهم منه ولكن إلى حدّ كبير أصبح الخوض فيها لازما وضروريا في تلك الأيّام لأن الفلسفة الإغريقيّة كانت تطغى على أذهان وأفكار الإنسانيّة بأكملها.
المدارس المهمّة في الفلسفة الإسلاميّة
1) مدرسة الكندي:
أبو يعقوب بن اسحق الكندي (توفّي بين 252\866) كان عربيّا أصلا ولذا انه دعي بالفيلسوف العربي لتمييزه عن سائر الفلاسفة غير العرب وكان عمله عندما لا يزال يجري بناء المقرّر أو المنهج الفلسفي ومفردات اللغة ومن المفهوم كم من مشاكل أو صعوبات إنه قد واجه في مروره بالفلسفة وإنه قدّم للفلسفة الإسلاميّة الأصالة النظريّة وإسهاماته في المنطق أيضا فوق الوصف والنعت .
وكان والد الكندي محافظا في الكوفة ويمكن أنه ولد في بداية القرن التاسع وحصل على الدراسات من بصرة ومن بغداد وهو يعتبر كمترجم للأعمال الإغريقيّة الى العربيّة وإنه قد قام أيضا بإعادة وتطوير الأعمال المترجمة بالآخرين مثلا كما فعل في "علم التوحيد لأرسطو" وكان الكندي في قصور الممالك العبّاسيّة وإنه أدار على عائدات للقصور وقام بعدّة مناصب أخرى أيضا ولكن أخيرا إنه خلع من المناصب وصودرت مكتبته وكانت له ملاحظات كعالم جغرافي ومؤرّخ للحضارات وكطبيب. وآرائه التوحيديّة تعكس الطابع المعتزليّ.
الكندي كان رباعيّا في تقسيم الروح، أولا الروح هو الحقيقي الأبدي- السبب والجوهر لكل الأشياء التي هي روحانية في العالم- وثانيا الروح كقدرة منطقيّة والإمكانيّة لروح الإنسان، ثالثا كعادة أو عادة ملكية للروح، أخيرا الروح كالنشاط الذي يقود الى الحقيقة. وبالكلمة أن الكندي كان عالما لاهوتيّا معتزليّا وفيلسوف الأفلاطونيّة المحدثة وكان يدمج بين أفلاطون وأرسطو في الأسلوب الأفلاطوني المحدث .
2) مدرسة الفارابي
إنه تلا الفيلسوف الكندي عصابة من العلماء من بغداد ومن أهمّهم الفارابي (257\870 ق.م) وفوق تركيزه على الفلسفة الإسلامية لقرون عديدة إنه لعب بدور مهمّ في تنقية مفردات اللغة لتتمكّن من استخدامه وللاستفادة منها لمن بعده لعهود متتالية وإن قد أسّس مبادئ كبرى للفلسفة كما في المنطق.
كان الفارابي رجلا ضحّى حياته للفلسفة والتفكّر حتى تسلّم اللباس الصوفي في آخر حياته وقد ذكر أن والده كان ملازما فارسيّا وإنه ولد وسدج بإقليم فاراب في تركيا. وأن بعض كتاباته عن الموسيقى تشير الى دقّته وقدرته في التدرّب الحسابي وكان يكلّم بلغات عديدة تبلغ عددها سبعة وأنه كان شغوفا بالمرادفات والشروط الموازية وظهرت هذه في كلماته الموجزة الفلسفيّة. وإنه عاش طويلا ببغداد من حيث غادر الى حلب بعدما حلّب المشاكل السياسية ببغداد ولجأ الى قصر سيف الدولة ولكنه قضى أواخر أيامه في التقاعد وقبضه الموت حينما كان راحلا في ديسمبر 950. وقد نقل أنه كان في عمر الثمانين حين الوفاة.
العالم الفارابي قدّم ما في وسعه لدراسة كتابات أرسطو حتي سمّي "بالمعلّم الثاني" أو "الأرسطو الثاني". وهو يعدّ ضمن الأطباّء ولكنه ما مكث في المراجعات الطبّيّة وكان متضحّيا الى فنّ الشفاء الروحي وكان يطلب عشق الحقيقة رغم أن هذا ضدّ رأي أرسطو. ومنطق الفارابي ليس بمحض التفكّر العلمي بل إضافة الى ذلك أنه كان انتباهات عن النحو والأبحاث عن نظريّة المعرفة.
والروح في الإنسان في ثلاثة أضعاف، أولا الممكن وثانيا الحقيقي وثالثا المتأثّر من كل هذه وهذا في حسّ الفارابي يعني أنه الأول الإمكانيّة الروحيّة في الإنسان بطريق (الثاني) تحقيق المعرفة التي حصلت بطريق الخبرة والتجربة والثالث تقود الى معرفة الإحساس العالي الذي يسبق كل التجارب.
أن معالجة الفلسفة لدى الفارابي هي في بعض الأحيان باعتراف أفلاطون وبأرسطو ولكن في بعض المناسبات في المنهج الصوفي والزهدي ويمشي بعيدا عن السابقين وأنه أحيان يأكّد أن السبب هو الذي يعزم ويصمّم الشيء هل هو جيّد أم قبيح .
3) مدرسة ابن مسكويه
وكان مجيئ ابن مسكويه عندما يسبق القرن أحد عشرة القرن العاشر ومدرسة الفارابي لقيت حتفها تماما وابن سينا على طريق اليقضة الجليّة الجديدة بفلسفته وهي بشبابها. وابن ماسكويه كان متحالفا بقدر كبير الى الكندي أكثر من الفارابي.
هو أبو علي ابن ماسكويه، طبيب وعالم بفقه اللغة ومؤرّخ وكان خازنا وصديقا لعضد الدولة وتوفّي سنة 1030 ومن بين ما خلّف لنا من الأشياء هناك النظام الفلسفي للأخلاق والآداب الذي مقيّم حتى هذا اليوم في الشرق. وكان ذلك دمج الماديّة المأخوذة من أفلاطون وأرسطو وغالن والقانون الديني الإسلامي رغم أن أرسطو يسبق كل هذه. ووفقا له أن الروح الإنساني يكون سهلا ومادّة غير معنوية وشعوريا لقيامه نفسه ومعرفة وعاملا .
4) مدرسة ابن سينا
أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا ولد في قرية افشنا قريبة من بخارى في سنة 980 في أسرة مرتبطة بخدمة عامّة وحصل على دراسة علمانيّة ودينيّة من بيته وأتمّ دراسته في الطبّ والفلسفة من بخارى وكان ابن سبع عشرة عندما عالج وشفى مرض ابن الملك نوح بن منصور وحظي بشرف الوصول الى مكتبته ومن ذلك الوقت صار معلّما لنفسه في البحث العلمي والممارسة.
كان يتجوّل من قصر الى قصر وقام بخدمات كمعلّم ومؤلّف حتى عيّن وزيرا للشمس الدولة في حمدان.
وكان ابن سينا نقيّا في الرأي الأرسطي ربّما يكون هذا خطأ أعظم في تاريخ الفلسفة الإسلاميّة. وكان كل دقائق حياته مشغولة وفي نهاره حضر الشؤون الدولية أو الاستمتاعات الاجتماية عبر الصداقة والاخوّة والحبّ وفي كثير من ليله كان في الكتابة والقلم بين أصابعه والوقت والظروف صمّمت اتّجاه هذا النشاط وإنه ألّف القانون في الطب من قصر ابن الملك وكانت مقاليد المكتبة في يده وإنه قد سجّن في حياته بإبنه ونظّم الأشعار وكتب عن التفكّر التقيّ.
وبإسهاماته شكّلت الفلسفة الحديثة بأساليب حديثة بدلا من تعاليم تقليديّة وله تأثير كبير ودائرة المعارف في الطبّ له كان معتمدا ومرجعا في الغرب من القرن الثالث عشرة الى السادس عشرة حتى اليوم له السلطانيّة والنفوذيّة في فارس.
وللشرق أنه يعدّ ملك الفلسفة وكان موضع الدرس بين الأطباء والسياسيين وعلماء اللاهوت وكان له أعداء من شتى المجالات حتى الخليفة المستنجد في 1150 ببغداد حرّق كتاباته .
5) مدرسة ابن الهيثم
وبعد أيّام ابن سينا ومدرسته أنه لفتت انتباها مهماّ الى الفلسفة الفكرية في مناطق شرقيّة في إمراطوريات المسلمين.
وفي القاهرة في بداية قرن أحد عشرة ان أعظم الحسابيين والأطبّاء في القرون الوسطى أبو علي محمد بن الحسن بن الهيثم قد ولد سنة 354هـ في البصرة وكان سابقا موظّفا حكوميّا في بصرة. وقدرته المتميّزة كانت في الحساب وتطبيقه العمليّ وإنه قد لفت بقدر كبير الى كتابات أرسطو وغالن أيضا. وقد جاء في كتاب "أخبار الحكماء" للقفطي على لسان ابن الهيثم : "لو كنت بمصر لعلمت بنيلها عملا يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان"، فوصل قوله هذا الى صاحب مصر الحاكم بأمر الله الفاطمي، فأرسل إليه بعض الأموال سرّا، وطلب منه الحضور إلى مصر. فلبى ابن الهيثم الطلب وارتحل الى مصر حيث كلفه الحاكم بأمر الله إنجاز ما وعد به. فباشر ابن الهيثم دراسة النهر على طور مجراه ولما وصل الى قرب أسوان تنحدر مياه النيل منه تفحصه في جوانبه كافّة، أدرك أنه كان واهما متسرّعا في ما ادعى المقدرة عليه، وأنه عاجز على البرّ بوعده. حينئذ عاد الى الحاكم بالله معتذرا، فقبل عذره وولاه أحد المناصب. غير أن إبن الهيثم ظنّ رضى الحكم بالله تظاهرا بالرضى، فخشي أن يكيد له، وتظاهر بالجنون وثابر على التظاهر به حتى وفاة الحاكم الفاطمي. وبعد وفاته عاد على التظاهر بالجنون وخرج من داره وسكن قبة على باب الجامع الأزهر وطوي ما تبقى من حياته مؤلّفا ومحقّقا وباحثا في حقول العلم فكانت له إنجازات هائلة .
وله مؤلّفات عديدة ومن أهمّها كتاب المناظر، وكتاب الجامع في أصول، والحساب وكتاب شرح أصول إقليدس في الهندسة والعدد والهندسيّة وما الى ذلك.
6) مدرسة الغزالي
ولد حجّة الإسلام أبو محمد الغزالي في ضاحية غزالة بمدينة طوس من أعمال خراسان. وكان والده الى جانب اشتغاله بغزل الصوف ويقوم بخدمة رجال الدين والفقهاء في مجالسهم وكانت أقصى أمانيه أن يرى أحد ولديه (محمد وأحمد) خطيبا وعالما وخلال السنوات تحقّقت أمنيّته وتشجّرت أحلامه وتوفّي الوالد وتربية الولدين تعهّد به الوالد بصديق صوفي.
وكان الغزالي تناقضا لكل الفلاسفة والجدليّين يتزكّز على التجربة أكثر من الآراء العالميّة وأن كل الأشياء تفهم وتحقّق من خلال التجارب لا بالأفكار والآراء مهما كانت قبوليّتها. وإنه أتى بتهمتين ضدّ الفلسفة وكلتاهما المتمتّعتان والأولى منهما أن الفلسفة تصدم أو تنتهك ضدّ مبادئها نفسها ولا يمكن الوصول الى الاستنتاجات على أساس افتراضاتها والثانية أن الفلسفة عنيدة أو متضاربة للدين وأن المسبوقة لا تغادر مكانا للسابقة. ولهذا أن أغلبيّة الفلاسفة يكلّمون عن إله ويعالجونه كإسم لمفهوم فارغ ولا يعطون له شيئا لفعله وإنه قد أجيب بعملاق من الغرب ابن رشد . وفي الجوانب الغربيّة أن الفلسفة صارت تحت الغيوم السوداء بعد الانتقادات اللاذعة والمهاجمة القويّة من الغزالي ولم تقم بقدمها حتى القرن التسعين بمجيء النهضة وفي الشرق استمرّت الفلسفة ولا تزال تستمرّ الى يومنا هذا.
وخلّف الغزالي ورائه قائمة طويلة للكتب ومن أهمّها إحياء علوم الدين، وكتاب الأربعين، والأدب في الدين، وآداب الصوفيّة والاقتصاد في الاعتقاد وإلجام العوام عن علم الكلام والرسالة القدسية وفيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ومقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة ومعيار العلم في المنطق وغيرها من الأعمال القيّمة.
وهناك مدرسة أندلسيّة في الفلسفة وإسهامات بالغة لها قد أثرت مكتبة الفلسفة ومن أبنائها العظام ابن باجة وابن طفيل وابن رشد.
ولد ابن باجة في نهاية القرن الحادي عشرة وهو يتّفق الى حد كبير مع الفارابي كان هادئا وانفراديا شرقيا وقلّما اعتبر المنهجيّة وعدد رسالاته وبحوثه قليل وفي كتاباته المنطقية لا تغادر الفارابي حتى يوافقه في نظرياته الماديّة والميتافيزقيّة .
ويلد ابن طفيل في مدينة صغيرة بالأندلس وتوفّي في المغرب سنة 1185 وكان شغوفا بالقرائة وله أشعار عديدة ولم يصل إلينا الا قصيدتين وعمله الذي أذاع صيته هو "حي بن يقظان" وفي إنه مثّل كفيلسوف عظيم .
وأن أبا الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد ولد بقرطبة في أسرة المحامين سنة 1126. وكانت دراساته أيضا على أرسطو وإنه قام بتفسير أقوال وآراء أرسطو أيضا وكان أرسطو معلّمه ومرجعه في الفلسفة .
المدرسة الصوفيّة
إن الصوفيّة كانت نزعة منتشرة في الفلسفة الإسلاميّة ومن العسير تحليل وتدقيق أهميّتها ودورها فيها وأن العالم ابن سينا قد كتب الفروق بين الفلسفة الصوفيّة وغيرها في كتاباته بكل الوضوح وكان أهل الصوفيّة كانوا يروون الأمور بطريقين والطريق الأول هو الطريق الصوفي وما المراد بهذا أو ما فائدة هذا الطريق ونتاجه؟ والجواب هو الحصول على إحساس نفسي ورضى روحي وهذا الطريق كان طريق الفكر الذي يقود الى ذروة الفرح النفسيّ.
وأن الأعمال في علم التصوّف لا تعالج فقط التجارب أو الخبرات ولكن هي تحلّل هذه الأمور والمرور على هذه هي بطبيعته أمر يمتّع ويلذّ كل من يمرّ به والدليل الواضح لهذا أنه لا يرى في تاريخ العالم شخصا هو غادر الطريق الصوفي بعدما دخل فيه ولكن بالعكس أن تاريخ الملوك والأمراء وأصحاب الملايين الذين دخلوا الى هذا الطريق يطول وعددهم فوق الحصر والحدّ وفوق كل البيان والتوصيف أن هذا الطريق هو طريق اللذّة لا يلتذّها إلا من دخلها وخاض في بحره.
ويكون من الخير والفضل عند معالجة عن المدرسة الصوفيّة القول اليسير عن تاريخ مدخل التصوّف حتى صارت مدرسة مستقلّة قامت بأمور قيّمة للعالم حتى استطاع تحويل مسار الترف واللهو الى العبوديّة والطمأنينة والزهد.
نشأة الصوفيّة وكونها مدرسة صوفيّة
منذ مقتل الإمام سيّدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه دخلت الأمّة الإسلاميّة في فتنة لا تبقي و لا تذر قسّمت الأمّة إلى فرق وشيع، عرفت بـ"الفتنة الكبرى" في الإسلام . ويقول نيكلسون ( R.A.nicholson ) في هذا الصدد :" لقد مزّقت الحروب الأهليّة التي أعقبت هذه الفتنة الإسلام شرّ تمزيق، ولم يلتئم بعد الجرح الذي أحدثته تلك الحروب" حسب تعبيره. وانتقل الحكم إلى يد بني أميّة بحيث جعلوا الحكم وراثي مناف لمبدأ الشورى مع التعسّف والكثير من العنف والاستبداد والإباحية، وانتهت هذه الفترة بمقتل الإمام الحسين رضي الله عنه في كربلاء سنة 61 هـ / 680 م. ويضاف إلى ما تقدّم أنّ حياة المسلمين الاجتماعيّة في العصر الأمويّ تغيّرت وبدأ الثراء يظهر في المجتمع الإسلاميّ مقترنا بحياة الترف وما قد تستتبعه من انحراف خلقيّ وهنا وجد المسلمون الأتقياء أنّ من واجبهم دعوة الناس إلى ما كان عليه السلف من تقلّل وزهد وورع، وعدم انغماس في الشهوات. وأمثلة الدعاة إلى ذلك الصحابيّ أبو ذرّ الغفاريّ الذي انتقد حياة الأمويّين المترفة، وأساليبهم في الحكم نقدا شديدا، ودعا إلى الأخذ باشتراكيّة الإسلام العادلة.
وكان اهتمام هؤلاء الزهّاد الأوّلين يدور في الأغلب حول فكرة الموت ويوم الحساب ومصيرهم بعد الموت من عذاب جهنّم ونعيم الجنّة، فدفعهم هذا الشعور بالخوف إلى ممارسة حياة دينيّة جادّة مع الحفاظ على أدقّ أحكام الشريعة، بل إلى الزيادة فيها من النوافل والأعمال الصالحة. وعلى أساس ذلك أقبل هؤلاء الناس على حياة الزهد والفقر والورع والاعتكاف والتهجّد والصوم والتوكّل وغير ذلك من طرق التنسّك والتقشّف ابتعادا منهم عن فتن الدنيا وفسادها .
بعد وصول العبّاسيين إلى الحكم سنة ( 132هـ/750م ) بدا العصر الذهبيّ للحضارة الإسلاميّة، وخاصة خلال خلافة هارون الرشيد ( 193هـ/809م ) وابنه المأمون ( 218هـ/833م ) الذي أسّس بيت الحكمة ( 217هـ/832م ) وأصبحت من خلاله بغداد عاصمة عالميّة علميّة، وبرع فيها كثير من العلماء منهم أبو يوسف الكنديّ وأبي نصر الفرابيّ والجاحظ وغيرهم، كذلك نشطت حركة الترجمة والعلوم. ولكن هذا الوضع العلميّ الجيّد كان يقابله وضع سياسيّ متأزّم بسبب الحروب و الخلافات الداخليّة و الخارجيّة، منها حرب الأمين والمأمون، سيطرة البويهيّين على الحكم، ثورة الزنوج، حركة القرامطة، زحف الدولة الفاطميّة من المغرب. وهذا الوضع السياسيّ أفرز جنوحا عند الصوفيّة بالبعد عن أهل الحكم والسياسة والتوجّه نحو حياة العلم والعمل مع المحافظة على الموروث القديم، فبرز منهم العديد في كثير من العلوم. وفي التحليل النفسيّ ( الحارث المحاسبيّ )، الفناء والمعراج الصوفيّ ( أبو يزيد البسطاميّ )، النور المحمّدي ومركزيّته الكونيّة ( سهل التسريّ )، الفناء ودرجات التوحيد ( أبو القاسم الجنيد )، المحبّة وتوحيد الصدق ومراحل الحياة الكونيّة ( الحسين بن منصور الحلاّج ). هذا الزخم العلميّ من المعارف الصوفيّة أدّى بالمدرسة الصوفيّة إلى الازدهار في إثبات الوجود مع المحافظة على وحدة و مسيرة المجتمع الإسلاميّ و مسايرة أوضاعه من خلال تخصّص المشايخ الذي أضفى تخصّصات على مدارسهم. لكن بداية القرن الرابع الهجريّ تعتبر نكسة للمدارس الصوفيّة وذلك بسبب تحالف المؤسّسة الفقهيّة مع المؤسّسة السياسيّة حيث تمّ إعدام الحسين بن منصور الحلاّج سنة ( 309هـ/922م ) الذي لم يستطع إخفاء أسراره وفيوضاته وجعلها في قالب لفظي تقبله العامّة وتفقهه وفق منطق الشريقة، فاتّهم بالزندقة ثم كفّر وأعدم .
بعد نكسة الإمام الحسين بن منصور الحلاّج إتّخذ التصوّف لنفسه لبوس المنطقيّة بتكييف أحواله بمصطلحات ومفردات صوفيّة يمكن له أن يتواصل بها ومن خلالها مع المتصوّفة في حين لا تضرّ به وبمسيرته ، وذلك ما دأب عليه الإمام أبو حامد الغزالي المتوفّى سنة 505 هـ في مؤلّفاته من خلال كتابه إحياء علوم الدين، وبعده الإمام الشيخ سيّدي عبد القادر الجيلانيّ ( 470هـ/1077م-561هـ/1166م ) الذي ربط بين محاسن الشريعة والعقول السليمة، وتأثّر بالتيّار الروحيّ الصوفيّ، وكان هو حلقة الوسط بين المذهب الفلسفيّ لابن سينا ومذاهب التصوّف الفلسفيّ عند السهرورديّ ومحي الدين بن عربي. هذا التكيّف مع روح العصر الموجودة في تلك الحقبة ترك فرصته للتصوّف في أن يحافظ على مسيرة متّزنة دون أن يستطيع أيّ من أقطاب المتصوّفة أن يقعّد له قواعد جديدة يمكنها أن ترتقي به إلى عالميّة الطرح كفكرة تجتمع حولها أفراد الأمّة الإسلاميّة لخدمة البشريّة من خلال إحقاق العدل والمساواة في كلّ مناحي الحياة ونبذ الظلم.
وهنا أضيف بعض أعلام التصوّف بالمغرب الإسلاميّ المتقدّمين الذين لهم الفضل وأهميّة في مدرسة صوفيّة.
أوّلا، أبو مدين شعيب بن حسين الأنصاريّ، وثانيا محي الدين بن العربي وهو محمّد بن عليّ بن محمّد بن أحمد بن عبد الله الحاتميّ وهناك مشايخ آخرون ولا أضيف هنا كل أسمائهم وأحصر بإشارة بعضهم فقط مثلا علي بن أحمد الحسين التجيبي، أبو الحسن الشاذلي الذي أسّس الشاذليّة، وما إلى هؤلاء.
وصفوة القول أن المدرسة الصوفيّة هي بنفسها محلّ بحث واسع وهذه الأمور السابقة فقط تشير الى قطعة تاريخية لها ولها دور وأعلام في العهود المتقدّمة أيضا.
وكانت موضوعات بحث المدرسة الصوفيّة الفلسفيّة مثل الوجود والكون والإنسان الكامل وتعمّق الصلاة والمعرفة وما إلى ذلك .

المصادر والمراجع
• Majid Fakhry, A history of Islamic philosophy, Columbia University Press, New York.
• M.M.Sharif, A history of muslim philosophy,Vol:2, Low price publications.
• Oliver Leaman, A brief introduction to Islamic Philosophy, Blackwell Publishers, U.S.A.
• T.J.Debober, The History of Philosophy in Islam, translated by Edward R.Jones , Cosmo Publications.
• W.Montgomery Watt, Islamic Philosophy and Theology, University press, Edinburg.